ومرة اخرى تشغل مدينة الفلوجة الاخبار و عناوينها. فالعنف المسلح يتصاعد بسرعة على ارضها—لكن يبقى السؤال هو ما الذي جعل اسم المدينة يرتبط مع العصيان و العنف الذي انغمس فيه العراق منذ 2003؟ الباحث الاقدم في "ضحايا حرب العراق" ليلي هامورتزيادو توضح لنا بعض الامور في هذا السياق.
محاصرون: الحياة و الموت في الفلوجة
المؤلف: ليلي هامورتزيادو
19 يونيو 2016
"عادة ما تولد الحرب احساسا بالصدمة يتبعه عواقب لم يكن يتوقعها المحاربون. فخوض الحرب يعني حصول ما هو غير متوقع" (كولن غراي، الاستراتيجية و التاريخ: مقالات في النظرية و التطبيق، روتلج للنشر 2006، ص 87).
كان تحسين علي عباس الساعدي مراسلا حربيا يغطي اخر وقائع الفلوجة في علمية تحريرها من سيطرة الدولة الاسلامية. لكنه توفي في اليوم الثاني للهجوم. في صورته كان مبتسما، لا ينظر للكاميرا، يلتف وشاحا حول رقبته و يبدو وجهه كألاف من الشباب العراقيين الذي واجهوا الموت العنيف في المعارك او في القصف او ضرب الهاونات او الغارات الجوية او الانفجارات. توفي في 23 مايو 2016 1, في اليوم التالي لإعلان رئيس الوزراء حيدر العبادي بداية عمليات الفلوجة.
و كتب ماهر نزيه و سيف حميد لوكالة رويتر "بدأ الجيش العراقي هجوما على الفلوجة ليخوض ما يتوقع لها ان تكون اكبر المعارك ضد الدولة الاسلامية، تدعم فيها القوى العظمى في العالم ومن بينها الولايات المتحدة و ايران، الحكومة العراقية العازمة على استرجاع اول مدينة كبيرة سقطت بأيد المجموعة الارهابية في 2014". 2. قيل ان 50000 مواطن محاصرون في المدينة لا يملكون موارد غذائية او عناية صحية كافية. من حاول الهروب من المدينة قتل. ومن عصى اوامر الدولة الاسلامية يتم اعدامه بكل بساطة. و كذلك من يشتبه بتعاونه مع القوات الامنية. و اخرين سقطوا ضحايا امام اسلحة جيش دولتهم. عوائل بأكملها قامت بالانتحار بعد ان عانت الجوع و المرض ("الانتحار الجماعي اصبح هو الحل الوحيد في الفلوجة":
اكد مواطنون اخرون بأنهم يأكلون العلف. اما الماء، فأنهم يحصلون عليه مرة في الاسبوع في يوم الاثنين و لمدة ساعة فقط. و اخبر مواطنون صحيفة الشرق الاوسط بأن الانتحار في مدينتهم يحصل بشكل يومي. وايضا اكدوا بأن تجويع اهل الفلوجة هو امر خططت له الحكومة و قوات التحالف لانهم كانوا يمارسون عقوبات جماعية ضد المدينة التي قاومتهم خلال فترة الاحتلال. 3
تعتبر مدينة الفلوجة معقلا للتمرد السني الذي قاتل قوات الاحتلال الامريكي و الحكومة الشيعية في بغداد سيطرت على الحكم بعد سقوط صدام حسين في 2003 و هي المدينة حيث قاتل فيها جنود الجيش الامريكي اكبر المعارك من 2003-2011 و هي ايضا المدينة التي تعرضت الى قصف يومي تقريبا من قبل القوات العراقية منذ 2012. ما بين عامي 2012 و يونيو 2016، قتل 1.627 مدني من قبل القوات العراقية. و عندما كانت تحت سيطرة الدولة الاسلامية، ما بين 2014-2016، قتل 1.200 مواطن من قبل مقاتلي الدولة الاسلامية. و ايضا خلال الفترة نفسها، قتل 78 مدني عراقي من قبل القصف الجوي لقوات التحالف في الفلوجة. و في هذه السنة قيل ان 18 مواطن (من بينهم 5 اطفال) ماتوا جوعا. اجمالا، منذ بداية "الحرب ضد الارهاب" قتل اكثر من 7.000 مدني في الفلوجة.
كان تحسين علي عباس الساعدي يغطي اخر "المآسي الانسانية" في الفلوجة، لكنه كان صبيا صغيرا في 2003 عندما حصل الهجوم ضد بلاده و احتلت، و ابتدأ العصيان الذي استمر 13 عام. كان صبيا صغيرا عندما حصلت اول المعارك في 2004.
"عدم توازن القوى": ابريل 28، 30 2003:
كان هناك سخط محلي واضح من اول يوم وصلت فيه القوات الامريكية في 23 ابريل 2003. و بعد خمسة ايام في 28 ابريل كان هناك مظاهرة عنيفة تطالب الجنود بالرحيل و مغادرة بناية مدرسة كانوا يحتلونها. و حسب ما جاء به المحتجون، فأن جنود الولايات المتحدة اطلقوا عليه النار بدون ان يتم استفزازهم و قتلوا سبعة عشر مواطن عراقي و اصابوا اكثر من سبعين. 4.
4 Violent Response: The U.S. Army in al-Falluja, 16 Jun 2003
5‘...there was no clear evidence of shooting from the crowd, again suggesting that U.S. forces responded with disproportionate force.’, Ibid.
وحسب ما قال به المشاركين في المظاهرة فأن الاحتجاج كان سلميا صرخوا فيه بشعارات "الله اكبر! محمد رسول الله!" و "كلا صدام حسين! كلا امريكا!"
ما مجموعه سبعة عشر مواطن قتل في حادثة المدرسة و خمسة و سبعين مواطن اصيب في الحادثة. ثلاثة عشر قتلوا في وقتها، حسب ما قاله احد اطباء المنطقة، جلبت جثثهم للمستشفى من اجل ارسالها لأهلها. و اربعة اخرين توفو في المستشفى في الايام اللاحقة.
في احتجاج اخر بعد يومين، في 30 ابريل 2003، قام موكب امريكي بفتح النار و قتل ثلاثة مواطنين. و حسب ما قاله الدكتور احمد غانم العلي، اثنين ماتوا مباشرة و الثالث توفى خلال نقله الى المستشفى في الرمادي. و اصيب ستة عشر مواطن ايضا. 5 بيانات ضحايا حرب العراق عن هاتين الحادثتين و المواطنين الذين قتلوا فيها بالاسماء و الاعمار و غيرها من التفاصيل: x066 و x069
معركتي الفلوجة في 2004:
ابريل 2004: 572-616 قتلوا في حصار الفلوجة
اول معركة في الفلوجة كان الهدف منها التخلص من العناصر المتطرفة في الفلوجة و ايضا كانت ردا على قتل اربعة مقاولين أمريكيين في ابريل 2004.
في 31 مارس 2004، قام المتمردين العراقيين في الفلوجة نصبوا كمين لموكب يحمل اربعة مقاولين عسكريين من القطاع الخاص من شركة بلاكوتر في امريكا. قتل المقاولون بإطلاقات من سلاح أوتوماتكي و رميت عليهم رمانه من خلال نافذة سيارتهم. بعدها قامت الحشود بحرق جثثهم وجرها في الشارع ومن ثم تعليقها.
في ليلة 4 ابريل 2004 شنت القوات الامريكية هجوما كبيرا. من بين 800 قتلوا في الهجوم، 616 كانوا مدنيين و اكثر من 300 كانوا نساء و اطفال.
وحيث ان المراسلين منعوا من دخول المدينة خلال الحصار، فأن عدد الضحايا من "ضحايا حرب العراق" هو 572-616 مدني و يستند هذا العدد على الاحصاء الاجمالي و ليس على سلسلة من التقارير الفردية، و التي تعطي مجرد لمحات للأحداث التي حصلت داخل الفلوجة. 6
احد الاحصاءات الاجمالية التي اخذت من الارقام التي تقدمها المستشفيات و منظمات المجتمع المدني و التي وصلت الى 600 في يوم 12 و في النهاية وصلت الى 800، وتزايد هذا العدد بسبب سقوط ضحايا في سلسلة من "الهدنات" بالإضافة الى العثور على جثث دفنت في انقاض البنايات المدمرة او في القبور المؤقتة في الحدائق الخاصة. في 600 حالة وفاة الاولى كان هناك 160 امرأة و 141 طفل اصغر من 12 عام من بين الضحايا.
نوفمبر 2004: 581-670 قتلوا في تسع مناطق في الفلوجة
في المعركة الثانية للفلوجة، و التي تسمى بعملية الفجر و عملية شبح الغضب، كانت عملية امريكية و عراقية و بريطانية مشتركة في نوفمبر و ديسمبر 2004.
في ابريل، قاتل في الفلوجة ما يقارب 1500 متمرد. في نوفمبر قيل ان العدد قد تضاعف. ابتدأ الهجوم في 8 نوفمبر 2004 و استمر القتال حت 23 ديسمبر 2004. في هذه المعركة 581-670 مدني قد قتل في تسعة مناطق من الفلوجة.
المصدر الوحيد لأعداد الضحايا في المصادر الرسمية هو عن طريق تقرير قدمته شبكة المعلومات الاقليمية ايرين وهي احد وكالات الامم المتحدة. تقرير ايرين اقتصر على الجثث التي تم استرجاعها "من الانقاض حيث كانت هناك بيوت و محلات" و لا تشمل تلك الجثث التي تم استرجاعها من المناطق المفتوحة و الشوارع و اقتصرت على 9 من اصل 27 منطقة. 7
ارقام ايرين: تم استرجاع "اكثر من 700" جثة من بينها اكثر من 550 "كانوا نساء و اطفالا"؛ "عدد بسيط من الرجال عثر عليه في تلك الاماكن و معظمهم كانوا كبار السن".
منذ 2012، بعد انسحاب القوات الامريكية من العراق، كانت الانبار تشهد هجوما يوميا نهارا و ليلا من قبل القوات العراقية حين حاول رئيس الوزراء العراقي الشيعي اخماد التمرد السني. قصف الفلوجة و الرمادي سبب موت الاف الضحايا المدنيين، ومع وصول قوات الدولة الاسلامية ازداد العدد بضعة الاف اخرى.
ان الحياة في الفلوجة الان تعني الحياة مع التمرد، و الحياة مع الارهاب، و الحياة مع القصف الجوي وقذائف الهاون. الحياة في الفلوجة يعني الحياة مع الجوع و المرض. الحياة في الفلوجة يعني الحياة في خوف و يأس. الحياة في الفلوجة يعني الموت بسبب الانفجارات و الموت بسبب النار او اطلاقات النار و الماء، بسبب عدم تلقي العناية الصحية او الافتقار للغذاء. وصل الموت الى تحسين علي الساعدي هوه يحاول ارسال اخبار معركة اخرى؛ ووصل الى حسين مرهيج العبيدي بعمر 18 عندما كان يحتج، في ابريل 2003؛ ووصل الموت الى 15 رجل حرقوا احياء لمحاولتهم الهرب من الدولة الاسلامية في ابريل من هذه السنة و ظلت جثثهم معلقة وهي تلتهب.
حربا غير نظامية: تمرد و ارهاب
من هم اولئك المتمردين الذين اخذوا الفلوجة قاعدة لهم، و من هم اولئك الارهابين؟ هل هم رجال صدام؟ هل هم القوات "الشريرة"؟ هل هم "مناهضين للغرب"؟ ومن اجل ماذا يقاتلون؟
بالتأكيد المنهج الذي يتبعونه يصنف على انه حربا غير نظامية تعرف على انها "استخدام العنف من قبل محاربين غير نظامين او مجموعات داخل الدولة لأغراض سياسية من اجل الحصول على السلطة و السيطرة و الشرعية باستخدام اساليب غير تقليدية في الحرب بسبب ضعف الموارد الاساسية و شحتها" (جيمس كيراس "الحرب غير النظامية" في فهم الحرب الحديثة، كامبردج 2008 ص 232)
ان تاريخ الفلوجة الحديث، بعد احتلال 2003 من قبل قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة، هو تاريخ المقاومة من خلال التمرد و الارهاب، مقاومة ضد المحتل الاجنبي و قوات الدولة العراقية الحليفة لهم. المجموعات التي تسعى الى تحدي الولايات المتحدة و حلفاؤها تعرف قدرتها على السيطرة العسكرية في اي بيئة: البر و البحر و الجو وحتى في المجال القريب من الارض. احد الاستجابات الى القوة العسكرية التقليدية هو تحدي الاسلحة العسكرية باستخدام قوات غير نظامية مثل المتمردين و الارهابين و الميليشيات التي يمكن ان تتنشر التي تختار متى و اين و كيف تهاجم و يمكن ان تختفي بين المدنيين.
بعد سقوط بغداد في 2003 منعن وزارة الدفاع الامريكية استخدام مصطلح تمرد لوصف العنف، لكن بدلا من ذلك تحدثوا عن "جيوب مقاومة" من اجل تقليل خطورة التهديد و خلق الاحساس بالانتصار الغربي، من الناحية العسكرية و السياسية، لكن ايضا من الناحية العاطفية. من المهم اظهار امتنان و تعاون العراقيين مع القوات المحتلة؛ من المهم ايضا تشتيت الانتباه بعيدا عن التمرد و اسبابه: بالنظر عميقا لهذه الحرب النظامية، فأنها تنبع من الشعور بالظلم مثل الاضطهاد العرقي و الديني، و الاحتلال الاجنبي و غيرها من المظالم.
في الفلوجة و في العراق عموما، انواع التمرد التي رأيناها هي انواع فوضوية ، تهدف الى اضعاف و تدمير النظام الموجود، او يوطوبيا دموية، تسعى الى تحقيق مكافأة او عقوبات دينية او تمرد تقليدية تحاول تغيري النظام الموجود لخدمة معايير تقليدية. معظم المجاميع تتبنى حربا غير نظامية بسبب ان اشكال العنف السياسية الاخرى هي غير متوفرة لهم. فهم يفضلون مناهجا غير مباشرة و غير متناسقة من اجل القضاء على السلطات المعادية من اجل التأثير و الاجبار و التخويف. يحاولون الحصول على المؤيدين، من بين المحليين و مواطنين دوليين و في الوقت نفسه يحدثون عدم استقرار و ينشرون الخوف لمنع السكان المحليين من مساعدة اعداءه. اي محالة مثل هذه عادة ما ينتج عنها اعدامات علنية.
حرب العصابات تحصل لتحقيق اهدافا عسكرية و استراتيجية، على مدى القريب و البعيد: من اجل اضعاف معنويات عدوهم السياسي و يسببون انسحاب قوات الاحتلال او الحكومة. الفراغ الذي يتبع يملأه التركيب السياسي المتمرد.
المجموعات الارهابية تستهدف المدنيين غير المحاربين و الرموز التي ترتبط بالدولة (شرطة و عسكريين و موظفي حكومة و بنايات اخرى) لنشر الخوف. "تختار المجموعات الارهاب كوسيلة لاستخدام الموارد المحدودة التي يمتلكونها لتحقيق هجمات درامية غير تقليدية، غالبا ما تسلط عليها القنوات الاعلامية من اجل اجبار او اقناع احد فئات الجماهير المستهدفين" (كيراس 2008، ص 234) ومن اجل اظهار قوتهم وسلطتهم.
الحياة و الموت في الفلوجة لم يتغير كثيرا منذ 2003 . مدينة الجوامع كانت بلدا لأكثر من 300.000 او ما يقارب واحد بالمئة من الشعب العراقي، من مدنيين و ميليشيات و محاربي القاعدة و الدولة الاسلامية، يعيشون و يقاتلون و يتضورون جوعا و يهلكون بسبب العنف، تحت الحصار او بسبب عقوبة الموت. ضحايا الفلوجة بسبب العنف يصل عددهم الى خمس مرات اكثر من المعدل الوطني: اما عدد من فقد حياته في اخر المعارك فيحتاج وقتا لمعرفته. لكن هناك شيئا واحد مؤكد هنا: متما ما يتم تسجيله و تدوينه، فأن هؤلاء الضحايا سوف يضافون الى العديد من الاف من العراقيين الاخرين في ذاكرة الحرب هذه وجرائمها و تاريخها. ومن هنا الفلوجة ليست باستثناء لكنها الاسوأ من بين نظيراتها من المدن العراقية.